Wednesday, August 1, 2012

العبور


أحمد نوار
والبحث عن جماليات الطاقة الكامنة

بقلم أسامة عفيفى

ما الفن؟

هل هذا هو السؤال الملائم لبداية الحديث عن "العبور العظيم" ؟! وهل هو السؤال الوحيد الذي يطرأ على الذهن عندما نتأمل محاولات أحمد نوار للغوص في تداعيات "أكتوبر" الملحمية ؟

الحقيقة إنني اكتشفت أنه السؤال الوحيد الذي ينبغي الإجابة عنه قبل الدخول إلى "ملحمة" نوار الباحث عن تجليات الطاقة الكامنة في "ملحمة العبور العظيمة" .. خاصة وانه لا يرسم من أجل التفتيش في وجدانه ووجدان جيل كامل من صناعها عن أسباب حدوثها وتمجيده لأبطالها ... لكنه يستشرف بغوصه في تجلياتها آفاق مستقبل قادم، يمكن أن يعبر بنا إلى حياة أجمل تحقق إنسانية الإنسان المصري الذي حقق معجزة العبور

ما الفن إذن ؟! أو بالأحرى من أي الزوايا نظر نوار للمشهد كي يترجم بألوانه ورسومه، ووميضه المتناثر هذه الطاقة الكامنة ؛التي كانت ومازالت تشكل إيقاع وجدانه لترسم نفسها على سطح لوحاته التي تتفاعل متجاورة ومتحاورة لترسم ملامح ملحمة فنية آسرة تدفع المشاهد إلى التفكير والدهشة والتساؤل عن المستقبل ؟! ومن أي رؤية نظر نوار إلى المشهد كي يجسد ذلك كله في عمل فني يثير الأسئلة الحارقة بدلا من أن يقدم الإجابات المباشرة المجانية المستأنسة ؟

وهل يمكننا أن نصنف هذه الأعمال وغيرها من أعماله في جداول التصنيف النقدية والفلسفية التي يبتكرها النقاد وفلاسفة الفن في غرفهم المغلقة لنطبقها نحن الكتاب بآلية واسترخاء على أعمال المبدعين ؟

الإشكالية هنا – بالنسبة لي – مركبة ومربكة .. فلقد اعتدنا أن يشاهد "كتاب الفن" المعرض في قاعة العرض، ثم يعودون إلى مكاتبهم وأمامهم صور اللوحات ليكتبوا انطباعاتهم وتنظير اتهم عنها سلبا وإيجابا. لكنني في هذه التجربة "متورط" في الحدث نفسه .. فلقد عايشت الفكرة، وصاحبت خلق اللوحات وتشكلها على جدران المرسم وناقشت الفنان في تفاصيل فنية وتقنية وشخصية وفلسفية وثقافية، وعبر شهور كان "المشهد التشكيلي" يتخلق ويكتمل، وتتفاعل أصداؤه في وجداننا سويا، وفي توقيت مناسب انفصلنا .. أنا إلى أوراقي وهو إلى استكمال مشهده الملحمي... كي اكتب أنا "النص الكتابي" ويقدم هو "النص البصري".. لكن لابد أن أوضح مسألة هامة هنا؛ فهذا النص الكتابي في كل الأحوال لاحق على "النص البصري" ويعزف على إيقاعه .. لكن الورطة تكمن في أنني كنت داخل "المطبخ" ..ومن الصعب تماما الفكاك من أسر سحر رؤية الملحمة وهي تكتمل أمام عينيك ومن المستحيل أن تفلت من إيقاع "المعزوفة" وهي تتناغم مع إيقاعاتها الداخلية كي تستكمل اللحن النهائي

ما الفن إذن ؟... وكيف نحس بجمالياته الكامنة في عمل ملحمي كبير كهذا العمل .. الحقيقة إنني كنت ومازلت أرى كما يرى هربرت ريد أن الإحساس بالجمال ظاهرة متقلبة .. بل أن محاولات فلاسفة ونقاد الفن لوضع تعريف جامع مانع للفن والجمال – عبر العصور – كانت محاولات مخادعة على الدوام، فالجميل ليس جميلا دائما عبر الزمان والمكان فالمعايير تتغير من مجتمع إلى مجتمع آخر ومن زمن لآخر

وقد يسألني سائل، أليس الجميل جميلا بذاته في كل زمان ومكان ؟!.. أليس ما أبدعه فنانو الحضارات الإنسانية منذ عصر الكهوف حتى العصر الحديث جميلا، ويمكن تذوقه عبر الزمان والمكان ؟

نعم يمكننا تذوق تراث الفنون الإنسانية كله منذ ما قبل التاريخ وحتى الآن .. ولكن مالجمال في إعادة إنتاجه ؟! فمعيار الجمال دائم التغيير، ووجود مفهوم ثابت للجمال أصبح أمرا مثيرا للضحك في ظل التطور والتقدم الإنساني المذهل، فكما يقول كاندينسكي إن كل عمل فني هو وليد عصره.. والعصر في معظم الأحوال هو المنبع الأصيل لوجداننا الفردي ومن ثم فإن كل مرحلة ثقافية تنتج الفن الذي ينتمي إليها؛ والذي يستحيل أن يتكرر. وأضيف أنا أن كل جماعة بشرية تنتج فنها المواكب للعصر لأنه ترجمة مباشرة لتفاعل ميراثها الحضاري الخاص مع عصرها ومتغيراته.. بل إن فناني كل جماعة بشرية يعبرون عن ثقافتها بأشكال مختلفة تتحد مع الثقافة الوطنية ومنجزات الثقافة الإنسانية .. وأحمد نوار واحد من فناني مصر الذين ارتبطت إبداعاتهم مبكرا بالرافدين معا، ولقد تجلى ذلك في عملين أرى أنهما من أهم أعماله المبكرة وهما: "ملحمة يوم الحساب" و"إنسان السد العالي

ففي" يوم الحساب" تجلت قدرته الأدائية واستيعابه للفكر الإنساني والثقافة العالمية مختلطة بفهمه ووعيه الثقافي الوطني؛ ولقد استطاع كرسام متمكن من أدواته الأكاديمية والإبداعية أن يجسد ببراعة فائقة عملا فنيا مشحونا بالأفكار وتفاعل الثقافات وبالإضافة إلى تعبيره الروحي والوجداني الذي فجر ملحمية اللوحة؛ وحولها إلي حالة تنبض بالطاقة التي أصبحت هي محور إيقاع الإبداع الفني نفسه.
أما لوحته القوية "إنسان السد العالي" فهي تعبير عن التحامه المبكر مع قضايا مجتمعه، وتجسيده لملحمة وطنية شاركت في صنعها أمة بأكملها فاستطاع أن يعبر من خلال قدرته الأدائية؛ وإتقانه لتقنيات فن الرسم بالذات؛ بالإضافة لشحنات الطاقة الكامنة في الفعل البشري المعجز علي أرض الواقع أقول استطاع أن يعبر عن طاقة هذه الأمة وقدرتها علي صنع المستحيل

هذان العملان يجسدان في اعتقادي منهج وثقافة ووجدان أحمد نوار الذي ظل طوال مسيرته الفنية مخلصا لثقافته الوطنية وقضايا مجتمعه ومتابعا بحيوية وبثقة كبيرة في النفس لتطورات وإنجازات الثقافة العالمية ..هاضما ذلك كله في وجدانه لتخرج لوحاته مشتبكة مع أسئلة العصر وأحزانه وأحلامه محطما ثوابت وقواعد وقوانين وقوالب عديدة من موقع فهمه الواعي لها .. معلنا تمرده دون ضوضاء علي الثوابت الكلاسيكية ؛ منفذا ذلك بحسابات دقيقة؛ مبتكرا شكلا آخر للوحة؛ وللعمل الفني؛ ليس بهدف إشاعة الفوضى؛ أو إعلان "الاحتجاج" لكن لأنه يرى ما لا يره الآخرون ، فالفنان "الفنان" عبر العصور يجسد في أعماله شكلا آخر للعالم غير الذي نراه

يوم الحساب - رصاص على ورق




إنسان السد العالي - حبر على خشب حبيبي - 1966



ما علاقة ذلك كله بالعبور ؟! وكيف يمكننا أن نعتبر أن ما قلناه مدخلا للبحث عن تجليات الطاقة الكامنة التي يفتش عنها نوار ؟!
الحقيقة أن ما أسلفت هو المدخل الوحيد لاستيعاب أو تذوق حالة التأجج الروحانية التي أشاعها أحمد نوار بأعماله في هذا المعرض .. والتي تتنامى كلما انتقلنا من عمل إلى عمل ليتصاعد الإيقاع في نهاية العرض عبر الممر الذي يقود المتلقي إلى أعلى مراحل تجليات الطاقة الكامنة في ملحمته؛ فتتسرب رويدا رويدا إلي دواخلنا للتوحد مع الكامن فينا من رغبة في الإنعتاق والتسامي فيحدث "التطهير" الوجداني الذي هو غاية الفنون كلها؛ ونكتشف أننا كنا بصحبة عمل ملحمي واحد تجاورت فيه الأعمال الفنية؛ فتحاورت وتفاعلت مع تجليات الطاقة الكامنة فينا لنكتشف أننا قادرون على التجاوز والعبور إلى غد أكثر إنسانية وأكثر جمالا.

هل أجبت على السؤال ؟! وهل استطعنا سويا أن نقبض على مفهوم للفن عبر كل ما ناقشناه ؟



الحقيقة أن عصر المفاهيم "الجامعة المانعة" قد انتهى، ومن يحاول أن يفعل ذلك فهو كمن يبحث عن قطة سوداء "مغمضة العينين" في غرفة مظلمة! فالتطورات المعرفية المتلاحقة في العالم ؛ أثبتت أن "التغير" هو "الثابت" الوحيد في المعرفة الإنسانية... فمنذ أن اكتشفت الإنسانية قوانين "النسبية" أصبح اليقين الإنساني مستحيلا.. خاصة في الفنون... فالشاعر والموسيقي والرسام والروائي يعيش إيقاع عصره الحافل بالمتغيرات المتلاحقة الصادمة المتلاطمة كالبحر بحيث أصبح هذا البحر"بحر المعرفة" دائم التغير ولا نستطيع أن ننزل نفس البحر مرتين كما قال هيراقليطس

وبالتالي فمن المستحيل أن يعبر الفنان الحقيقي عن هذه المتغيرات من منظور واحد، أو من مفهوم ثابت للعالم، لأنه لا يعيش في منطقة انعدام الجاذبية؛ لأنه يعيش وسط المتغيرات والكوارث والثورات والأطماع والأفكار المتصارعة.. بل هو جزء من هذا التغير ولابد أن يتناغم مع إيقاعه ليستطيع التعبير عنه؛ فما أن يثبت الفنان اللحظة التي التقطها ليضعها في عمله الفني تكون الطبيعة والعالم والأشياء قد تغيرت من حوله؛ وانقلبت الأشياء رأسا على عقب وظهرت أحداث وأفكار وعلاقات أخرى غير التي كان قد ثبتها؛أي قبل أن يحللها أو يفجر جمالياتها؛ فكل ماحولنا يتغير دائما باضطراد فيجد الفنان نفسه وكأنه ينظر من نافذة قطار سريع.. ما أن يرى شيئا حتى يتلاشى.. ليظهر شيء آخر .. وهكذا إلي ما لا نهاية؛ فنحن في عصر الفيمتوثانية والنانوتكنولوجي نلهث وراء الحركة الدائبة والتغير العارم دون توقف.

ما علاقة ذلك كله بالفن ؟ وما علاقته برؤية أحمد نوار لملحمة العبور ؟

الحقيقة أن كل ما ذكرت يقع في بؤرة أي رؤية متأملة لأعمال احمد نوار لأنه يؤكد أن الفنان المعاصر لم يعد يمتلك ترف تجسيد العلاقات الجمالية بين الأشياء، لأن الأشياء نفسها مع سرعة التغير تكون قد اندمجت؛ فتتلاشي الفوارق الحسية بين مكوناتها.. فالروحي يندمج بالمادي.. والإنساني يلتحم بالتكنولوجي والقبيح يتوحد بالجميل.. ويصبح العالم كتلة واحدة تدور بسرعة هائلة يصعب معها فصل الأجناس عن بعضها البعض، وبالتالي لا يستطيع الفنان المعاصر أن يمتلك ترف التقاط الجميل وتكثيفه وإعادة إنتاجه على سطح اللوحة كما كانت تفعل التعبيرية أو التجريدية التعبيرية


.لكن الفن الآن أصبح أكثر تركيبا وغوصا في روح الأشياء المتلاحمة، وأصبح هدف الفن هو استكشاف الطاقة الكامنة، وتجسيدها على سطح اللوحة لتنتقل إشعاعاتها إلى روح ووجدان المتلقي فتنير بصيرته ليتفاعل وجدانه مع "المرئي" فيكتشف بنفسه تألق "اللامرئي" وسطوعه .. فيخرج من المعرض "الحالة" وهو أكثر قدرة على فهم العالم وأكثر قدرة على تغيي

الفن الآن – ببساطة – هو اقتراح آخر للعالم .. والفنان يعيد تركيب ما لا يراه الآخرون ويجسده على سطح اللوحة ليصبح "اللامرئي" مرئيا ويصبح للاواقعي وجودا واقعيا ملموسا فيفيض العمل الفني بالنور الذي يبدد الظلام الملتف حول بصيرة البشر.



الإنسان والطاقة 15 - أكريليك ومجسمات - 1995 42 × 42 سم



الإنسان والطاقة 7 - أكريليك ومجسمات 1994 60 × 60 سم


وهذا بالضبط ما يحاول أحمد نوار أن يفعله ..
فهو يحاول منذ بداياته الأولى أن يعطي للاواقعي واقعيته المشروعة فهو يرى ما لا يراه الآخرون من علاقات بين مفردات العالم .. ويعيد إنتاجها وفق تفاعلاتها مع بعضها البعض من ناحية ؛ ووفق تفاعلاتها مع وعيه وثقافته وقدراته الأدائية من ناحية أخري؛ فيعيد تكوينها من خلال ما اسماه أحمد فؤاد سليم "بالتفكير بالفن" أي من خلال العلاقات البصرية وعلاقاتها باللون والخط والكتلة والظل والنور؛ من منظور رؤية الفنان الذي استغنى تماما عن المنظور التقليدي وهو الأمر الذي أعطاه حرية مطلقة في اختيار مصادر متعددة للضوء بحيث أصبح الضوء يخرج من اللوحة؛ ليسطع على وجه المتلقي بدلا من أن يأتي من خارجها؛ فيعتقد المشاهد أن كائنات احمد نوار في لوحاته ..هي التي تشع ضوءا ونقاء وأنها تسلط أشعتها على روحه لتكشف الطاقة الكامنة في المتلقي نفسه. فنكتشف - بمنطق الفن – أن للاواقعي وجودا واقعيا ملموسا .. أي أن "رؤيته" واقتراحه الجديد يشكلان الأشياء المندمجة في تفاعلها بحيث يصبح لهذا الاقتراح الجديد– في اللوحة – وجودا واقعيا مقبولا ومشروعا

هذا باختصار انجاز نوار الحقيقي في مسيرة "التشخيصية الجديدة" فالتشخيصية في العصر الحديث لا تنطلق من محاكاة الأشياء في الطبيعة كما دعت الكلاسيكية، ولا تحول الأشياء في الطبيعة إلى رموز ميتافيزيقية، كما فعلت الرمزية. كما أنها لا تقدم المرئي والواقعي وفق اقتراحات العقل الباطن كالسريالية.ولا تحفل بالدلالات السردية بين الأشياء لتصنع لوحة "المشهد المسرحي" الأكاديمية أو الواقعية الجديدة؛ لكنها – أي التشخيصية الجديدة – تتمرد على ذلك كله لتغوص في العالم ككتلة واحدة باحثة عن الطاقة الكامنة فيه لتعيد تشكيلها وفق منطق اللوحة؛ ليس بغرض تفجير الدهشة أو صدم المتلقي أو إضفاء الواقعية على اللاواقعي والغرائبي ..
ولكن للقبض على نور الطاقة الكامن .. كي يسطع من بين تكوينات المشهد الملحمي المتفاعل لكي يضئ بصيرة المتلقي.

أنه ببساطة بحث دائب عن اللامرئي بحيث يراه المتلقي واضحا وجليا وواقعيا .. وقد يسألني سائل، ما الذي تعنيه الملحمة التي أدعي أنها نقطة انطلاق أحمد نوار في هذه الأعمال ؟ وهل هي مجرد وصف أدبي مرسل لإنجازه ؟ أم أن للمصطلح محدداته وقوانينه الفنية و
العلمية ؟



الحقيقة أن هذا المصطلح بالذات حظي باهتمام المسرحيين والأدباء العرب؛ خاصة بعد إنجازات برخت المسرحية الثورية ؛ لكنه لم يلق أي اهتمام من دارسي الفنون التشكيلية في مجتمعنا؛ رغم أن الفن المصري القديم يعد أقدم فن ملحمي عرفته البشرية.. فجداريات الكرنك الضخمة؛ وتماثيل الفراعنة العملاقة وجداريات انتصارات رمسيس في قادش؛ واللوحات الصرحية التي خلدت معارك أحمس التحريرية ضد الهكسوس. وكذلك امتزاج رءوس الإنسان بالأسود؛ ورءوس الصقور بالأجساد الإنسانية علي جدران المعابد كتجسيد رمزي للالهة القديمة. هذه الإنجازات الفنية الثرية تشكل حالة ملحمية لم يتفرغ لدراستها احد من الباحثين ؛ وتحتاج إلي دراسات جمالية "ثورية" تخرج عن مفهوم الفن الغربي الذي قلده البعض كالقرود، وأعتقد أن من مثل هذه الدراسات من شأنها أن تعيد اكتشاف فنوننا من جديد. بل إنني أزعم أن إنجازات محمد ناجي الجدارية كانت تستلهم تلك الملحمية التي أثرت في روحه ووجدانه في أثناء معايشته للفنون المصرية القديمة؛ إبان إقامته بالأقصر

ما هو المقصود بالملحمية في الفن إذن؟ وكيف اثر هذا المفهوم علي احمد نوار؟



الحقيقة أن الملحمة ساحة مليئة بالحرية والخيال والابتكار؛ فلقد أعطاها أرسطو حرية مطلقة في تصوير اللاواقعي؛ وإعادة تقديمه للمتلقي بشكل يبدو واقعيا علي عكس القيود التي فرضها علي التراجيديات والكوميديا والشعر والموسيقي.. التي اشترط عليها جميعا أن تحاكي الطبيعة وان تعيد إنتاجها.. والغريب أن نقادنا تعاملوا مع الملحمة على أساس أنها تنتمي إلى الأسطورية أو الخيال الخرافي الشعبي؛ في حين أن منطق الفن يكمن في "المتخيل" وليس "الواقعي"؛ والملحمة تحقق أعلى أداء تخيلي ؛ لأنها تمتلك خيالا جامحا لا يتوفر في الأجناس الفنية الأخرى.. بل إنني أكاد أن أجزم أن ما سمى بالواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية التي بهرت العالم؛ كان مصدرها الأساسي هو مزج الملحمي بالواقعي؛ وإعادة صياغته في سياق جديد . .. كما أن اللوحة الكلاسيكية مهما بلغت كلاسيكيتها؛ ما هي إلا اقتراح من الفنان لشكل الطبيعة ؛ أو هي الطبيعة كما يراها الفنان مهما ادعى من التزام بواقعية المشهد ؛ حتى الفوتوغرافيا كانت ومازالت رغم التطور التكنولوجي أسيرة رؤية العين التي تختار علاقة الأشياء بعضها مع البعض أي أنها ترجمة لعين وخيال ورؤية الفنان .
لكن الملحمية تعطي الفنان مشروعية انطلاق خياله؛ كما إنها تعطيه الحق في ابتكار كائنات لا وجود لها في الواقع؛ فتصبح واقعية بمنطق الفن ؛ ففي الملاحم الكبرى: أسد بوجه إنسان؛ وإنسان بوجه ذئب؛ وحصان مجنح؛ وبطل لا تنفذ من جلده السهام، بل إن "أبو الهول" الرابض أمام الأهرامات ما هو إلا كائن ملحمي فهو أسد بوجه بشري... ولا يجد المشاهد أي غرابة في التكوين ؛لأنه قد تذوقه وتلقاه بقانون الفن؛ بل أنه يعتبر أن وجوده واقعيا تماما ولا غرابة فيه. كما أن جمهور السيرة الهلالية في القرى والنجوع لا يستغرب أبدا أن يقطع أبو زيد الهلالي بسيفه الفرس مع راكبه إلى نصفين بضربة سيف واحدة!! فالمبالغة هنا لا مبالغة فيها بمنطق وقوانين الملحمة. فالفنان الملحمي إذن يبتكر ما شاء له الابتكار، ويتلقى المشاهد إبداعه دون دهشة بل يتعامل معه بمنتهى الواقعية .


الإرادة 1 - أكريليك - 1997

إنها لعبة الفن أو "التواطؤ الفني" بين المبدع والمتلقي هذا التواطؤ الجميل هو ما يشكل إيقاع العمل الملحمي ويحدد قوانينه الإبداعية، وهو في نفس الوقت نقطة انطلاق الفنان إلى الحرية اللامتناهية التي تدفعه بحيويتها إلى البحث عن الكامن واللامتخيل، واللامرئي واللاواقعي ليجسده ويشخصه ليبدوا ظاهرا ومتخيلا ومرئيا وواقعيا.

إلى أي حد يصدق ذلك على أعمال أحمد نوار ؟!
وما هي الضوابط والشروط لتصبح هذه الملحمية فعلا ثوريا معاصرا يتفاعل مع عصر الفيمتوثانية والنانوتكنولوجي ؟!
أول هذه الشروط التي يعيها نوار.. التمرد علي القوانين الثابتة في عصر المتغيرات الكبرى فلقد تمرد مبكرا على المنظور التقليدي، وتحرر من مصدر الضوء الثابت كما أسلفنا .. فأصبح التشخيصي عنده أكثر تحررا؛ مع إجادته التامة لفنون وقواعد الشكل الأكاديمية .. مما أعطى لكائناته اللاواقعية واقعيتها الخاصة؛ تلك الكائنات التي تأتي لتدافع عن وجودها المشروع ككائن فني متخيل يتعامل معه المتلقي بواقعية ... وثاني هذه الشروط التي تتحقق في لوحة نوار هي وعيه التام" بقانون الأضداد" فالأشياء تحمل في داخلها نقيضها؛ الوجود يحمل في داخله العدم؛ والظلام يحمل في داخله النور؛ والأسود يلد الأبيض؛ والسكون يحتوي على الحركة؛ والنظام تسكنه الفوضى .. واليأس يحمل داخله أمل سيأتي .. هذه الأضداد كلها في صراعها الطبيعي تتفاعل وتتجادل فتنتج ما أسميه الانسجام الأنيق في لوحة نوار؛ وتعطي للملحمية إيقاعها المتناغم... ثالث شروط الملحمية الثورية التي يعيها احمد نوار هو ما أسميه جدلية الخيال والمنطق؛

فللخيال الجامح - عنده - منطق فني خاص.. ينبع من قلب التكوين ويشكل" اللاواقعية" من خلال رؤية الفنان وثقافته وخبرته الأدائية لتبدو"واقعية" تماما في نظر المتلقي... هذه الشروط هي التي تعطي للملحمية عند نوار ثوريتها وحداثتها؛ وتبعدها تماما عن الأسطورية والغرائبية؛ وتفتح الطريق أمامه للبحث عن الطاقة الكامنة في كائناته؛ فيشع نورها من بين ثنايا التكوين؛ لتنير الطريق أمام المتلقي فيكتشف الطاقة الكامنة في داخله ؛ وتشتعل فيه إرادة التغيير بحيث يصبح "التطهير الفني" أكثر ثورية"، وأكثر تحريضا؛ ولكن بأناقة وجمال وهدوء



هذا بالتحديد ما يريده – في اعتقادي – أحمد نوار من أعماله، وهو كفنان رسالي لا يقدم ما يريده بشكل مباشر أو فج ، ولكن من خلال
رسالة مشحونة بالابتكار والخيال الخلاق الذي يستهدف العزف على الكامن في الإنسان .. فهو يخاطب خيال المتلقي، ويحرره من أسر المنطق السهل، ويصطحبه من لوحة إلى لوحة ليكتشف بنفسه منطقية الخيال الخلاق وواقعيته السحرية.


تفصيلية من الإرادة 1 تفصيلية من الإرادة 1



تفصيلية من الإرادة 1


ولان أحمد نوار ارتبط بقضايا وطنه الكبرى وشارك شأنه شأن جيله محنة النكسة؛ وتألم مع المتألمين من مرارة احتلال الأرض ومحاولات الهيمنة على مقدرات شعبنا... ووقف على ضفة القناة محاربا؛ يراقب بعين الصقر تحركات العدو فوق أرض سيناء السليبة .. وعاش وسط القصف والمعارك؛ وفقد في غاراتها الأصدقاء والرفاق من الشهداء، وتسلل في جنح الليل عابرا الضفة الأخرى؛ قانصا ببندقيته أعداء الوطــن .. حالما بتحرير الأرض من رجس المعتدي، متألما لمعاناة زملائه الذين كانوا يعيشون الموت كل يوم، في ظل ظروف قاسية لا يحتملها بشر، يستيقظ على تبادل إطلاق نيران المدفعية المدوية؛ أو ينام على أزير الصواريخ المدمرة، ويعيش خطر الفناء في كل لحظة، يتابع ظل عدوه من خلف السواتر؛ ويربض بالأيام فوق جذع شجرة لقنص اللحظة التي تتيح له أن يقنص رأس عدو متغطرس، عاش أسطورة خط بارليف الذي لا يقهر، وشاهد علم الأعداء يرفرف ليدنس سماء الوطن على الضفة الأخرى .... شارك في ملحمة الاستنزاف الكبرى التي كانت تكبد العدو خسائر لا تحصى، تلك الملحمة التي قال عنها جنرالات إسرائيل إنها الجحيم بعينة

هذه المعركة العظيمة التي لم تأخذ حقها حتى الآن،عايشها بقلبه ووجدانه وأحزنه وأفراحه وهو يشاهد رفاقه الذين عبروا القناة مئات المرات وهم عائدين يرفعون علامة النصر بعد أن يكونوا قد كبدوا العدو خسائر فادحة، وسهر الليالي حارسا موقعه وهو يراقب وميض أضواء الطلقات الكاشفة التي تنير ظلمة المساء الصحراوي المخيفة .. عاش الدمار والانهيارات؛ ومعارك المدفعية التي كانت تدك الأرض دكا بالأيام والليالي .. وشاهد بنفسه من قلب الأحداث بطولات الجنود البسطاء الخارقة التي أذهلت العدو، هذه البطولات النادرة بالذات؛ هي التي دفعته دفعا للبحث عن "الطاقة الكامنة" في الإنسان المصري البسيط الذي تحدى التكنولوجيا والطبيعة والإحباط والظروف القاسية، ودفعته بقوة لتجاوز المحنة والنكسة ليحقق يوم "العبور".. معجزة النصر، ومعجزة عبور أكبر مانع مائي في التاريخ، ومعجزة تدمير خرافة العدو الذي لا يقهر .. كم من المعجزات المركبة المتداخلة مع بعضها البعض التي صنعت ملامح ملحمة العبور واختزلت رمزيا في رفع "العلم" فوق أعلي نقطة في خط بارليف ..


إنها اللحظة الملحمية التي ارتجفت لها قلوب الملايين من المحيط إلى الخليج؛ لتعلن عن تفجير الطاقة الكامنة في روح الأمة كي تعبر الهزيمة، وتعبر الخوف والقلق والألم والإحساس بالمهانة؛ فتتفجر الكرامة الوطنية؛ لتغمر بنورها الساطع ليل الحزن؛ وتشرق شمس الحرية من بين تلا فيف ضباب الهزيمة، لم يكن ما حدث مجرد مشهد مسرحي أو سيناريو لفيلم متقن الصنع؛ لكنة كان ملحمة بشرية فجرتها طاقة هائلة كانت كامنة في صدور الجنود الذين حملوا مدافع لا يستطيع بشر حملها ؛ صعدوا وسط الأوحال وطلقات الرصاص وقصف المدفعية وانهمار الصواريخ أكبر تل ترابي في التاريخ لينسجوا ملامح حدث عبقري تشكل بالدماء والصراخ والانفجار والبطولات الفذة؛ صانعين ملحمة غير مسبوقة في تاريخ الشعوب

اختلطت الرمال بالوجوه بالمدافع بالبشر بطلقات المدافع لتصنع مشهدا ملحميا نادر الحدوث، ولعل الأجيال الجديدة لا تعرف الآن حجم تأثيرها المدوي في قلب كل إنسان في الوطن العربي. كما لا تعرف أيضا حجم تأثيرها على العدو المتغطرس؛ و لا تعرف أنها قلبت موازين النظريات العسكرية التقليدية.... فلقد فجرت "الطاقة الكامنة" قدرات الإنسان المصري الخارقة فواجه الجسم البشري الدبابة وجها لوجه ليدمرها بمدفع "الار بي جي" في جسارة لم يسبق لها مثيل، وأعادت الأكاديميات العسكرية حساباتها في مقولة حرب الآلات وحرب التكنولوجيا؛ وبدأت تحسب حساب العنصر البشري من جديد، ولكن أي بشر ؟ وأي إنسان ؟ هذا هو السؤال ..


تفصيلية من الإرادة 1



الإنسان والطاقة 11 - أكريليك مجسمات - 1995 42 × 42 سم


هذا السؤال بالتحديد.. هو الذي فجر القضية كلها من جديد في عقل ووجدان أحمد نوار الفنان .... فلقد كان خارج الوطن للدراسة أثناء العبور، وحاول أن يعود للوطن كي يحمل مدفعه ليشارك في الثأر؛ لكن المطارات كانت مغلقة .. فأطلق لطاقة خياله الفني العنان كي يسترجع المشهد من خلال حصيلة الذاكرة التي امتلأت بالبطولات والتضحيات في أثناء ملحمة الاستنزاف ؛ ولاحت له في الأفق فكرة الطاقة الكامنة؛ فالبشر الذين عبروا وتحدوا التكنولوجيا؛ لم يكونوا بشرا عاديين، ولكنهم كانوا مشحونين بطاقة هائلة تسعى إلى التغيير وتسعى إلى العبور إلى غد أكثر إنسانية، وتسعى إلى الثأر لأرواح الشهداء وتسعى إلى رفع العلم حفاظا علي الكرامة الوطنية على أعلى نقطة فوق خط بارليف الذي قيل أنه لا يقهر .. حالة من السمو والتوحد مع الهدف لم يسبق لها مثيل .. فجرت طاقات الإنسان الكامنة فراح يصوغ ملحمة لم يشهد لها العالم مثيلا في حيويتها ومعجزاتها وتضحياتها لتعيد للإنسان المصري توازنه وكرامته وإنسانيته



قد يسألني سائل .. ولماذا الآن ؟! أي لماذا تذكر أحمد نوار ذلك كله بعد ست وثلاثين عاما من العبور ؟!
واعترف إنني سألته نفس السؤال فأجابني قائلا: ومتى توقفت عن التفكير في هذه الملحمة ؟! من فضلك أنظر إلى أعمالي السابقة آلا ترى أنها تحاول جميعها البحث والتفتيش عن تلك الطاقة الكامنـة

وتأملت فوجدت أن ومضات الطلقات الكاشفة التي أسماها أحمد فؤاد سليم "شهب نوار المضيئة" تتناثر في لوحاته السابقة جميعها، ووجدت أن تكوينات نوار التي تلتحم فيها الآلة بالإنسان ليتخلق منها شخوصا لها واقعيتها الخاصة كانت تشع نورا كاشفا يبحث في قلب الأسود الداكن عن تجليات "الطاقة الكامنة"؛ إنها تلوح ثم تخبو وتخبو لتلوح؛ وفق صراع الأضداد الذي تتناغم على إيقاعه ملحمية نوار الفنية؛ لأكتشف أن هذه"الطاقة" التي كانت تقف وراء ملحمة العبور أصبحت هدفا فنيا وثقافيا وروحيا من أهم أهداف لوحة نوار، إنها احتجاج على حالة الإحباط والإحساس بالعدمية التي تشيع بين الأجيال الجديدة،وتمرد علي حالة الركود والإحساس باللاجدوي السائدة ورفض للروح الانهزاميه والإحساس بالدونية واللا انتماء التي تغلف المشهد المجتمعي.. وهي في نفس الوقت – وفي هذا المعرض بالذات – استشراف لمستقبل قادم ؛ فهذا العرض ليس فقط لتمجيد هذه الملحمة، لكنه في نفس الوقت استشراف لملامح الغد القادم ؛ أنه بحث دائب عن أسرار تحقق الطاقة الكامنة التي صنعت النصر؛ لكي تتحقق مرة أخرى فتصبح عبورًا آخر؛ نعبر به الإحباط والعدمية والركود، كي نصنع غدًا أفضل وأكثر جمالاً وأكثر إنسانية .. وهنا تكمن ثورية وتمرد هذه الأعمال المتجاورة المتحاورة المفتشة في قلب الظلام عن النور الكامن في قلب اليأس عن الأمل وفي قلب الفوضى عن الانسجام الجميل ..

كيف تحقق ذلك كله إذن في هذا "العرض" ؟! ماذا ؟! "العرض" ؟! أليس ما يراه الناس هنا "معرضا" ؟! وما هو الفرق بين "العرض" و"المعرض" ؟



الحقيقة أن ما نراه ليس معرضا فالمعرض دائما يتكون من مجموعة من اللوحات أو التماثيل التي تمثل كل منها وحدة فنية فيها حالة مختلفة عن الثانية ويمكن النظر إليها وتذوقها بمفردها بغض النظر عن جيرانها من المعروضات



لكننا في هذا "العرض" بإزاء حالة مختلفة فالأعمال المتجاورة – المتحاورة هنا تمثل وحدة واحدة تكاد أن تكون عملا واحدا .. إنها مجتمعة تتناغم فيما بينها لتشكل معزوفة من مقام الوجد ؛ أي أن أحمد نوار في هذا "العرض" يعرض محاولاته للوصول إلي حالة جمالية مختلفة؛ تشكل كل واحدة منها مدخلا إلى التجربة الجمالية؛فهو تارة يدخل للملحمية من الجندي حامل المدفع، ومرة من دماء الشهيد ؛ ومرات من الآلة التكنولوجية في صورتها المؤنسنه؛ وأحيانا من مفردات الحضارة الكامنة فينا .. إنها محاولات الدخول إلى قلب التجلي لاكتشاف توهجه .. هذه المحاولات كلها غلفت بروح "المريد المتصوف" الذي يحاول التطهر ليتحد بالنور المطلق، أو الطاقة المطلقة؛ تسلمك المحاولة إلى الأخرى، وتقودك تلك لأختها؛ فتكتشف أنك تخرج من إيقاع إلى إيقاع فتكتمل ملامح المعزوفة لتلتحم بالملحمة الفنية التي هي معادل موضوعي للملحمة البشرية التي حققت النصر وأنجزت معجزة العبور. فيمثل "العرض" بلوحاته وتجهيزاته في الفراغ "حالة فنية" تعزف على إيقاع نبض المشاهد فيتوحد معها ليفتش بداخله عن طاقته الكامنة فيقبض عليها ويخرج من "العرض" أكثر معرفة وأكثر وعيا بالطريق إلى بوابات الغد المشرقة وهو الهدف الرئيسي من مشروع نوار الفني.


كيف إذن تحقق ما يريده نوار من هذا "العرض" الملحمي ؟! وهل تحقق بالفعل ؟! قلنا أن نوار يستدعي في هذا العرض الملحمة البشرية بطاقاتها الهائلة ليحاول أن يضعنا في قلب تفاعلاتها وتجلياتها كي يدهشنا ويثبت لنا أننا جميعا نمتلك هذه الطاقة، لكنها تعيش الآن تحت ركام الركود؛ ويحاول أن يضعنا في مواجهة مع الذات؛ ليؤكد لنا أننا امتلكنا مفاتيح هذه الطاقة العبقرية "فعبرنا" وأننا عندما نعيد النظر إلى دواخلنا سنكتشف أنها مازالت موجودة وكامنة، وفاعلة .. فقط علينا أن ننفض الغبار المتراكم من فوقها؛ فنراها جلية مشرقة كما تتبدي وتتجلى في "عرضه" الملحمي



فلقد كان نوار منذ معرضه عام 1968 ومرورا بمعرضه عام 1971 ومعارضه في السبعينيات والثمانينيات حتى في معرضه "معادلة السلام" كان يحاول في معارضه جميعها أن يبحث عن تجليات هذه الطاقة، لكنه كان معنيا من الناحية الجمالية بالشكل الهندسي ومفردات الرمز الدالة على "روح الموضوع" أكثر من اهتمامه بتفجير شحنات الطاقة كما يراها ألان.. فلقد كان "المثلث" الذي أرى أنه "تلخيص للهرم" هو البطل الرئيسي في اللوحة وتداخلت معه المربعات المصرية القديمة؛ ولم لا فالمربع هو قاعدة الهرم - كما ذكرني هو – لكن مربعاته الخشبية البارزة في جسم التصوير أعطت – حسًا – أرابسكيا ديناميكيا فعل الصراع بين السكون والحركة في جسد اللوحة – كما أشار من قبل أحمد فؤاد سليم – خلال هذه الفترة؛ حتى في معرضه "معادلة السلام" والذي – كان – في رأي – معرضا احتجاجيا ينحاز إلى سلام الأقوياء والسلام القائم على العدل، ويرفض مفاهيم " الهيمنة والاستسلام


معادلة السلام - أكريليك - 1986 82 × 82 سم


تفصيلية من معادلة السلام



أقول هذه التجارب كلها كانت بمثابة التمهيد إلى هذا "العرض الملحمي" الذي استدعى فيه أحمد نوار "طاقته الفنية ومفردات لغته التشكيلية وفهمه لصراع الأضداد ؛ وأسلوبه في الإنعتاق من أسر المنظور التقليدي، وطريقته الخاصة في "التشخيص اللاتشخيصي" وحريته في اختيار أكثر من مصدر للضوء، واختياره لشكل المربع" الذي ينسف به بنية اللوحة "الأرسطية" المستطيلة ليصبح المربع الذي هو بالأساس مجموع أوتار الدائرة؛ والمعروف أن الدائرة عند نوار دائما هي بؤرة عدسة القناص التي اعتاد النظر منها إلي العالم ؛ والتي شكلت تيمه فنية في كثير من أعمالة السابقة لكنها تأتي هذه المرة مجردة في شكل المربع؛ ويمكن للمشاهد أن يرسم بعينية استدارتها أو يكمل هو ببصيرته استدارتها؛ فيري "المشهد الملحمي" من المنظار ؛ تماما كما كان يراه نوار .. وباستخدامه للمربع بالتحديد يكون قد انحاز انحيازًا كاملاً إلى التمرد على دلالات "الحنو" التي تثيرها "دوائره" في نفس المتلقي؛ لتقوم "الومضات" المضيئة الكاشفة بنفس الدور بانطلاقها في دجى الأسود القاتم فتنثر حميمة الأمل في حدوث "ضوء ساطع قادم" هو ضوء الطاقة التي ستبزغ من الظلام. ليصبح نوار أكثر زهدًا في "الهندسية" ؛ ويصبح "المربع" تجريد "للدائرة".. وينصب اهتمام مفردات اللوحة الفنية على الكشف عن تلك "الطاقة الكامنة"؛ وتتحول الومضات المتناثرة إلى كشافات باحثة في ظلام الأسود عن منبع "الضوء" في جسد اللوحة ..


أين الملحمية هنا ؟ وهل استدعي احمد نوار مفردات الملحمة التقليدية وادخل كائناتها الأسطورية في لوحته ؟ الحقيقة أن نوار لم يضع رؤؤسا حيوانية للبشر كما فعلت الملحمة القديمة ولم يضع للحيوانات رؤؤسا إنسانية؛ لكنة كان دائما يري الفعل الإنساني متحدا بالعالم والأشياء في كتلة واحدة ؛ ولأنة يري أن الإنسان هو الأصل؛ وهو الهدف ؛وهو في نفس الوقت قائد التطور والتاريخ ؛ لذا فلقد صاغ كائناته بأسلوب ملحمي في تفاعلها مع الحدث كحالة إنسانية...


فالصواريخ والطائرات والمدافع والبنادق لا تأثير لها بدون الفعل الإنساني الذي تكمن في باطنه الطاقة الخلاقة؛ لذا فهو يرسم- بقدراته لفائقة علي الرسم والتشخيص- الصاروخ المنطلق لتحرير الأرض السليبة مؤنسنا؛ بحيث تجد عضلات كتف المقاتل متحدة في تكوين واحد مع المدفع؛ كما تكتشف أن جسد الطائرة تتبدي في تكويناته عضلات ساق قوية متحركة تدفع الطائرة؛ لتكتشف في النهاية أن الصياغة الجديدة للأشياء أكثر إنسانية؛ وأن المقاتل قد توحد مع آلته التي التحمت بوجدانه وروحة؛ وأن الطاقة المحركة لها هي طاقة الفعل الإنساني الخلاقة التي انتصرت ....وان نورها الأخاذ يتفجر فيشع من داخلها على وجوه المشاهدين ، ليخطف أبصار وبصائر كل من يشاهد هذا العرض "الملحمة" بمعزوفة لونية من مقام العلم ....معزوفة لونية من مقام العلم؟!! كيف ؟

إنها مفاجأة العرض !! فمثلما كان ارتفاع علم مصر على أعلى نقطة في خط بارليف؛ يوم السادس من أكتوبر هو الاختزال الرمزي لحدوث معجزة العبور وهو الحدث الذي خلده صلاح عبد الصبور في قصيدته الرائعة "إلى الجندي المصري الذي رفع العلم" هذا الحدث الذي كان يعني استرداد الكرامة وارتفاع راية النصر خفاقة؛ وسقوط النجمة السداسية وتفتتها في مواجهة "طاقة النصر" ؛ هذه اللحظة الفريدة الممتلئة بالنخوة والفرح والكرامة ترجمها نوار فنيا بطريقة غير مباشرة ، فلقد غمس فرشاته في ألوان العلم وراح بشكل غير مباشر يلون مساحات وتكوينات لوحاته بألوانه الواضحة والدالة ..خاصة أن لألوان العلم دلالاتها؛ فالأسود هو لون الظلم والقهر والهيمنة والاستغلال الذي مر على مصر عبر العصور؛ والأحمر هو بحر دماء الشهداء الذين استشهدوا من اجل الحرية والانعتاق؛ والأبيض هو الغد المشرق الذي ينتظر الأمة التي يستشهد أبناؤها من أجل هزيمة القهر والاستبداد .. هذه الدلالات البسيطة التي شكلت الثقافة الوطنية ورمزت لها ألوان العلم؛ حولها نوار إلي "باليته" يغمس فيها فرشاته ليجسد ملحمة البحث عن الأبيض عبر صراع الأحمر والأسود.


أنقذوا السلام - أكريليك - 1986 125 × 82 سم



من مجموعة الحرب والسلام 1970 - شظايا من حرب الاستنزاف


هنا تكتمل صورة "الملحمة الفنية"- فنيا- فنوار المتمرد على المنظور وعلى المصدر الثابت للضوء.. يفكر باللون؛ ويتحول اللون عنده إلى مفرده تشكيلية دالة تحمل محمولا ثقافيا ووجدانيا وحضاريا .. بل أنه يتجاوز الوظيفة "الرمزية" للون ليصبح جزءا لا يتجزأ من أبجدية اللوحة التي تشكل لغة الشكل عنده .. فأبطال "العرض" الثلاثة هم الأحمر والأبيض والأسود؛ يتفاعلون ويتجادلون – شكليا – من خلال فهم واع ودقيق لقانون صراع الأضداد؛ فتنموا الحركة في مواجهة السكون.. ليتنامى الحراك الجدلي في اللوحات بشكل يحرك بصر المتلقي من تكوين إلى تكوين ومن صراع إلى صراع فيتخلق الأبيض الناصع؛ أو بتعبير أدق يولد الأبيض الناصع من صراع الأسود والأحمر ؛بل تتشكل شخوص الملحمة منهما فتأتي لتظهر ناصعة ودالة مشيرة إلى منبع الطاقة.. ونورها الكامن الذي لن يظهر إلا بتحقيق صراع الأضداد الفعلي "الاستشهاد" في مواجهة "الظلم والهيمنة والاستبداد" ورغم أن علماء الكيمياء والفيزياء يؤكدون أن الأبيض والأسود حالتان ضوئيتان ؛ وليسا من الألوان "كيميائيا" ؛ لكن نوار الذي يعرف هذه الحقيقة يتعامل معهما مرة على أساس أنهما لونان– بحكم الفهم الشائع للألوان – ومرات على أساس أنهما حالة ضوئية وهذا هو مربط الفرس في ملحمة الألوان التي تدور رحاها على أسطح لوحاته في هذا المعرض ...صحيح أنه يستخدم الأصفر والأزرق والأخضر لكن هذه الألوان بالتحديد استدعتها طبيعة الملحمة .. فالأصفر دائما يشير إلى سيناء ؛ والأزرق بدرجاته دائما يشير إلى قناة السويس؛ والأخضر يظهر كتجلي لحوار الأصفر والأزرق الذي يتكون كيميائيا منهما. لكن البطولة دائما في لوحات "العرض" لألوان العلم التي تشكل - بلغة الموسيقى - الإيقاع الأساسي للملحمة الفنية التي تتنامي موسيقاها ليفاجئنا بها مكتملة تقود معزوفة النصر المرحة في تجربة جديدة قوامها الرسم على "نوتات" موسيقية أصلية وكأنه ينهي ملحمته بغنائية ساطعة مرحة فرحة يتحول فيها "العلم" - الذي يظهر في اكتماله وشكله الواقعي - إلى لحن أساسي في نشيد النصر الذي يعزفه الشهيد فنسمعه قادما من السماء حيث مقام الشهداء الأبدي.

هل اكتملت الرؤيا ؟!! لم يقتنع أحمد نوار !!
لقد أحس أن الجملة الفنية لم تكتمل بعد .. فأراد أن يجسمها بحيث تتبلور الشحنة "فمحنة العبور" من "الممر" إلى خارج المعرض تمثل في اعتقادي حالة فنية أراد بها نوار أن يكثف الجرعة، ويجسد الرسالة الفنية اكبر تجسيد ممكن؛ وان يضع المتلقي في مواجهة حاسمه أمام نفســه .. وبغض النظر عن المفردات المجسمة في الغرف الثلاث التي يتكون منها الممر .. إلا أنها مجتمعة "بصريًا، ولونيًا، وإضاءة، وموسيقى" تمثل تراسل عبقري وملحمي للفنون جميعها.فتتبلور الطاقة. (الجمالية – الروحية) فتسكن روح المتلقي لأطول مدة ممكنة؛ وكأنة يريد أن تسكن وجدانه إلي الأبد لتدفعه دفعا للتفتيش في داخله عن مكمن الطاقة الفاعلة

لقد أراد أن يدخل إلى مسام جلد المتلقي.. وإلى قلبه وإلى سمعه وبصره .. لقد أراد أن يحاصره بصريًا وسمعيًا وروحيًا .. فلا مفر أمام المتلقي لكي يخرج من صالة العرض.. إلا أن يعبر "الممر".. بكل دلالته الروحية والعسكرية والثقافية والفنية. وهي الطريقة نفسها التي اتبعها نوار في أكثر من عمل من أعمال التجهيز في الفراغ ؛ حيث تتراسل الفنون لتجسيد الفكرة ؛ أو بمعني أدق لتأكيد المحمول الجمالي الذي تشعه اللوحات بحيث تأتي الأضواء والمرايا العاكسة والموسيقي التصويرية لتشكل الإطار النهائي الذي يؤطر الرسالة الفنية بشكل أكثر تأثيرا لتكثُف خلاصة الملحمة؛ أو الجملة الفنية النهائية الدالة؛ فالعمل المركب المصاحب للعرض هو جزء من العرض نفسه يجسد من خلال تجريديته الملحمية الفكرة مختلطة بملحميتها الجمالية أي أنة يعزف ولكن بطريقة أخري علي إيقاع الملحمة الأساسي؛ لتكتمل ملامح الشحنة الجمالية ولتتفجر جماليات تجليات الطاقة الكامنة في العرض بلوحاته وتجهيزاته في الفراغ لتتوحد الرؤية في نهاية العرض وتتلاحم وتتما هي مع الكامن جماليا وثقافيا في العمل ككل وفي الوجدان ويصبح العمل المركب معادلا موضوعيا للتجربة البشرية من ناحية ؛ وتكثيف للتجربة الجمالية وتداعياتها الملحمية من ناحية أخري ؛


العمل جزء لا يتجزأ من بنية الملحمة مع قدرته الإيحائية الفعالة عن طريق استخدام الموسيقي والإضاءة والمجسمات التي تتفاعل وتتجادل مع بعضها البعض لتنهمر منها دلالات شجية مؤثرة تدفع المتلقي دفعا إلي التوحد مع الملحمة. فأصوات القلوب النابضة المتداخلة مع أصوات التنفس العميق الناتج عن الجهد الشاق؛ مع أجساد الأبطال الذين فقدوا أيديهم أو أرجلهم في أثناء ملحمة الاستنزاف؛ وملحمة العبور، وأصوات دقات قلوب الشهداء،الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون؛ والذين هم أيضا أحياء في ذاكرة الوطن؛ وفي وجدان كل مصري بالإضافة إلي انعكاسات الأضواء الخافتة بألوانها المستقاة من ألوان ورفرفات العلم نفسه؛ تشكل مع المرايا والأضواء حالة من الوجد تدفع المتلقي دفعا للتفتيش داخله عن "الطاقة الكامنة" التي ستتأجج وتتجلى وتدفعه للعبور ليس إلى خارج المعرض... ولكن للمستقبل الذي نحلم به، والذي ستتحقق فيه إنسانية الإنسان .



تفصيلية من الحرب والسلام - عمل مجهز في الفراغ

Sunday, July 29, 2012

من الذى سرق زهرة الخشخاش ؟


كشفت عملية سرقة لوحة زهرة الخشخاش مدى إستشراء الاهمال والتسيب والمظهرية التى تعانى منها مؤسسات وزارة الثقافة وكشفت التحقيقات التى قام بها النائب العام شخصيا مدى فى إدارات المتاحف المنوط بها الحفاظ على ثروات الوطن الفنية ...أخطر ما كشفت عنه زهرة الخشخاش هو تفرغ أغلب القيادات للظهور فى وسائل الإعلام وشاشات الفضائيات متحدثين عن الإنجازات المسبوقة عبر ثقافة التى تحقق نظرية ثقافة الصهللة الشكلانية - بينما السوس ينخر فى البنية التحتية والعنكبوت ينسج خيوطه عليها - وراء الديكور البراق ..مؤكدين للمواطن الغلبان .. انهم يخططون وفق أحداث النظم العلمية لتقديم أفضل خدمة ثقافية!!!! والحقيقة انهم لا هم لهم الا التشبث بالكرسى حتى آخر رمق ... وإخفاء عورات المؤسسة عن الاعين خلف ديكور المهرجانات البراق.

لقد فضح «سارق» زهرة الخشخاش «المؤسسة الثقافية» وعري بؤسها وركاكتها، وأسقط من علي وجهها الأقنعة، وعراها حتي من ورقة التوت.. ولكن من هو هذا السارق؟! ولماذا سرقها؟! ولماذا سرق زهرة الخشخاش بالذات رغم أن بالمتحف لوحات أهم وأغلي سعراً؟! السؤال الأهم لماذا سرق «السارق» لوحة لن يستطيع بيعها. فمبجرد سرقتها علمت متاحف وصالات المزادات بالعالم بالسرقة، ولن يقتنيها أي هاوِ للفنون، لأنه ببساطة لن يستطيع عرضها في العلن، وستظل مخفية إلي الأبد، لأن ظهورها حتي لو بعد مائة عام يعني إعادتها إلي مصر!! فلماذا إذن سُرقت زهرة الخشخاش؟!

المؤكد أن «السارق» سرقها لهدف آخر غير بيعها؟! لذا لابد أن تكون اللوحة مشهورة، خاصة وأنها سرقت من قبل، وعادت في إطار تسوية سياسية أمنية مع الدولة التي كانت موجودة بها اللوحة، بل إن الناس شهدوا فيلماً مصرياً قام بناؤه الدرامي علي سرقة نفس اللوحة، وصورت أحداثه في نفس المتحف.. أي أن اللوحة سرقت لشهرتها، وليس لقيمتها الفنية أو المادية- خاصة أنها لن تباع- فلماذا إذن سرقت؟! يتردد في الأوساط الثقافية الآن- وهذا الكلام ليس من قبيل الشائعات، أن صراعاً محتدماً يزداد بين وزراء الحرس القديم، ونجوم الحزب الجدد، وأن عددًا من نجوم رجال الأعمال المتحكمين في الحزب لا يريدون استمرار فاروق حسني وزيراً للثقافة، وسبق أن مولوا حملات إعلامية ضده في مناسبات عديدة، ويري أصحاب هذا الرأي أن بعض الكبار أراد فضح «سياسات فاروق حسني» وإقصاءه فتم التخطيط بدقة بمساعدة بعض موظفي المتحف لسرقة اللوحة.. وإخراج وزير الثقافة بفضيحة «عالمية» مدوية.. أصحاب هذا الرأي يؤكدون أن العملية محلية.. في إطار حرب تكسير العظام بين الكبار في الحزب وإلا لماذا يسرق «سارق» لوحة لن يستطيع بيعها؟! وبالتالي يرون أن محسن شعلان سيذهب ضحية صراع الكبار!! فهل ستذهب أيضاً كنوزنا الفنية ضحية هذا الصراع؟!


البعض الآخر يري أن العملية «عالمية» رتبتها «المافيا» لصالح التيارات «المتطرفة العنصرية» في هولندا، والتي تتنامي بقوة وتدعو علانية لطرد العرب «الهولنديين» من البلاد، بل وتطالب بإغلاق باب الجنسية أمام المسلمين بشكل عام، ويقول أصحاب هذا الرأي، وأغلبهم يعيش في أوروبا ويعانون من «العنصرية الجديدة» في فرنسا والدنمارك وهولندا وسويسرا، أن عملية السرقة تقوم علي مفهوم استرداد المقتنيات الهولندية من «العرب» لأنهم لا يستحقونها ولا يعرفون كيفية الحفاظ عليها.. أي أن عملية سرقة «زهرة الخشخاش» عملية عقابية عنصرية محضة.. لأن اللوحة لن تباع ولن يجرؤ سارقها علي عرضها للبيع..


أياً كان سبب السرقة؟! فالثابت أن المتحف لم يكن مؤمناً «إلكترونياً- وبشرياً» ضد السرقة شأنه شأن جميع المتاحف التابعة لوزارة الثقافة، وهو الأمر الذي كشفناه مراراً وتكراراً علي صفحات «صوت العرب» و«الموقف العربي»، وكشفه زملاء لنا في صحف عديدة، ولم نتلق من المسئولين غير دفاعات هزيلة، واتهامات كثيرة بأننا مغرضون وهدامون، ولا نري إلا الجانب الأسود من انجازاتهم «العظيمة». وعندما أقول «جميع المتاحف» فأنا أعني ما أقول.. فالكل يذكر سرقة القطع الأثرية النادرة من «المتحف المصري» عبر عمال الصيانة والتي سرعان ما ابتلعتها «الآلة الإعلامية» الضخمة التي تمتلكها وزارة الثقافة.. ثم تلتها سرقة لوحات قصر محمد علي والتي عادت بطريقة «غريبة مشكوك فيها» بل جميعنا يذكر سرقة لوحات حامد ندا من الأوبرا وكيف أعادها الشاري بعد أن اكتشف أنها مسروقة رغم أنها كانت خارج البلاد، ولكن لأنه مصري نبيل كشف عن شرائه لها.. وتحمل القيل والقال وأعادها إلي مكانها.. ورغم موقفه المحترم فإن كاتب هذه السطور نبه أيامها إلي انهيار نظام التأمين الإلكتروني والبشري بل لقد انفردت «الموقف العربي» أيامها بأن الأوبرا لا تملك «صوراً» ولا أرشيفاً للوحاتها ومقتنياتها المهمة!!!


بقلم  أسامة عفيفى
جريدة الموقف العربى - القاهرة 31 أغسطس 2010





كذلك مازال مصير «40» لوحة من مقتنيات متحف الفن الحديث أعيرت في السبعينات لمستشفي العجوزة «مجهولاً» ورغم أن كاتب هذه السطور قدم قائمة بأسماء اللوحات وصورة من تحقيقات النيابة الادارية بشأن «فقدانها» إلي إدارة قطاع الفنون التشيكلية لكن لا علم لنا حتي الآن بمصير هذه التحقيقات أو اللوحات!! ومازال مصير لوحة إنسان السد العالي للجزار غامضًا حتي كتابة هذه السطور هذا كله وغيره كثير كان معروفًا لدينا.. ولدي الرأي العام الثقافي ونبهنا ونبه غيرنا لخطورته لكن سرقة زهرة الخشخاش كشفته وسلطت الضوء عليه، وفضحت الركاكة والفساد والمظهرية الكاذبة لأداء كثير من قيادات وزارة الثقافة..





الأمر المثير الذي انفردت به «الموقف العربي» العدد الماضي، هو إلغاء التعامل مع شركة الصيانة التي كانت تقوم بإصلاح الأعطال بالأمر المباشر حين حدوثها، لقد قيل إن السبب هو أنها تتقاضي أموالاً طائلة في حين أن هذه الشركة تقاضت حوالي 135 ألف جنيه فقط في عملية اصلاح نظام التأمين الالكتروني لمتحف محمود خليل عام 2004 وكانت تقوم بإصلاح الأعطال عند حدوثها «بالأمر المباشر» وهي من صلاحيات رئيس القطاع ولا تحتاج إلي صلاحيات الوزير التي كانت ممنوحة له!! فلماذا إذن توقف التعامل مع هذه الشركة ولماذا لم يدرج تطوير متحف محمد محمود خليل » في موازنات القطاع لمدة 4 سنوات كما جاء في أقوال السيدة ألفت الجندي رئيس الإدارة المركزية للشئون المالية والإدارية أمام النيابة، بل إن المفاجأة الكبري التي فجرتها السيدة ألفت، أن القطاع تلقي 40 مليونا لتطوير وانشاء المتاحف صرفت بالكامل علي متحفي «سراي الجزيرة» وحسين صبحي بالاسكندرية ولم يخصص مليمًا واحدًا لمتحف محمود خليل رغم حاجته الماسة لتطوير وإصلاح نظام الأمن الالكتروني..





جاء أيضًا في أقوال السيدة ألفت أن «مليونًا» من الجنيهات صرفت علي تطوير مكاتب إدارية لأحد المتاحف ولما اعترضت لدي رئيس القطاع وقالت له إن متحف محمود خليل أولي أمرها بتنفيذ الصرف لصالح المكاتب الإدارية!! لسنا جهة اتهام، فالأمر بين يدي النيابة العامة ولكننا نقرأ الأحداث، ولا نتهم أحدًا ونحاول أن نكشف للقارئ ما انكشف بسرقة زهرة الخشخاش.. والحقيقة أنه كثير..بل وكثير جدًا.. الخطير هو عدم تأهيل العنصر البشري لحماية تراثنا وكنوزنا الفنية، وهو العنصر الأساسي سواء كان التأمين الالكتروني موجودًا أم غير موجود فلو أن حارسًا واحدًا كان موجودًا بجوار اللوحة، ما سرقت، ولو كان نظام تفتيش الزائرين موجودًا ما حدث ما حدث، فضلاً عن قلة الحراس، وعدم كفاءة أغلبهم وجهلهم بما يحرسون وأهميته.





السؤال الأهم هو لماذا شيدنا هذه المتاحف؟! ولماذا ندفع فيها من أموال دافعي الضرائب الملايين؟! إن نظرة عابرة علي عدد زوار أي متحف منهم باستثناء المتحف المصري والقبطي سنكتشف أنه لا يتجاوز عدد أصابع اليدين أين إدارات «الثقافة المتحفية» ودورها في تنشيط الزيارات المتحفية، أين رحلات المدارس والجامعات والجمعيات الأهلية، ماذا فعل قطاع الفنون التشكيلية للترويج لمتاحفه ومقتنياتها المهمة؟! فلو كان بالمتحف جمهور وزائرون ما سرقت اللوحة، فضلاً عن أن كثيرا من مواطني هذا البلد الطيب لم يعرفوا أن مصر تمتلك لوحة زهرة الخشخاش إلا بعد أن أعلن عن سرقتها!!





والسبب الوحيد هو أن المؤسسة الثقافية الرسمية لا تهتم إلا بالبروبوجاندا والاحتفاليات، ولا تهتم بالمعرض ولا ذاكرة الوطن المهم أن يتسلم موظف العهدة محتويات المتحف صباحًا ويسلمها للأمن المسائي «علي الورق» سليمة كاملة!! المتاحف هي ذاكرة الشعوب الثقافية، ودورها أهم من دور المدرسة بل مكمل لها وأذكر أن مدرِّسة التاريخ كانت هي التي تصحبنا في رحلات المدرسة إلي المتاحف «المصري والقبطي والاسلامي» لتشرح لنا ما نراه، هذا الدور غاب ومازال غائبًا، فتحولت المتاحف إلي مخازن عهدة، وأهملت فسرقت.. إن المسئول الأول والأخير عن سرقة زهرة الخشخاش هو منظومة السياسات الثقافية المظهرية» التي أخفت عورات المؤسسة خلف «ديكوات براقة زائفة» القضية الآن ليست «زهرة الخشخاش» وسارقها وهدفه وهويته كما أنها ليست قضية المسئول الاداري الذي سيحاسب جنائيا.. ولكنها قضية مستقبل هذه السياسات العقيمة التي تقف حائلاً دون تقدمنا الثقافي وتدمر كنوزنا الثقافية الواحدة بعد الأخري فهل نقف في وجه هذه السياسات؟! أتمني

رؤيا - القبطية تراث وطني

جاء في وقته تمامًا، ليعيد الأمور إلي نصابها ويكشف بنور العلم الطريق للمستقبل وسط ظلام الفتنة البغيضة الجاهلة .. جاء ليعلن أن في مصر علماء عقلاء يتدخلون بما يعلمون لمحاصرة الجهلاء من المتعصبين الذين لا يجيدون غير إشعال الحرائق بجهلهم الذي لا يصب إلا في خانة أعداء الوطن.

لذلك أحسست بسعادة غامرة وأنا أتابع جلسات مؤتمر 'الحياة في مصر خلال العصر القبطي' الذي نظمته مكتبة الإسكندرية الأسبوع الماضي والذي أكد ان 'العصر القبطي' هو ملك للمصريين جميعًا مسلمين ومسيحيينوأن القبطية تراث وطني ليس ملكًا لطائفة أو عقيدة بعينها وتعود أهمية هذا المؤتمر إلي أنه أول مؤتمر علمي للقبطيات يعقد في مصر خارج نطاق الكنائس والأديرة - كما قال د.لؤي محمود سعيد منسق عام المؤتمر -

وهذا يعني ان المؤسسة العلمية المصرية العريقة قد بدأت تقوم بدورها العلمي الوطني تجاه حقبة هامة من تاريخ الوطن لتدرس بمنهج علمي لا يخضع لأي مؤثرات وجدانية أو عاطفية.ولقد شارك في المؤتمر علماء من مختلف الجنسيات وباحثون مصريون مسلمون ومسيحيون، فضلاً عن مشاركة رموز الكنيسة المصرية وعلمائها المتخصصين في هذه الدراسات اللغوية والتاريخية، فظهر المؤتمر في النهاية كمعزوفة علمية وطنية ترد بقوة علي دعاة الفتنة فلقد استطاع الباحثون ابراز دور الإنسان المصري في العصر القبطي في بناء حضارة الوطن في محاولة لوضعه في مكانه الطبيعي من ذاكرة الوطن ..

وهو الأمر الذي أكده د.عبدالحليم نور الدين في كلمته الافتتاحية، كما أعلن د.خالد عزب مدير مركز المخطوطات ان هذا المؤتمر بداية للاهتمام بالدراسات القبطية في إطار مخطط علمي وطني واسع وضعته المكتبة .. ولعل أهم التوصيات ما أوصي به د.لؤي محمود سعيد في كلمته بضرورة إنشاء هيئة علمية عليا للدراسات القبطية تقوم علي التنسيق بين الهيئات المعنية بهذه الدراسات .. ورغم تفاوت مستوي الأبحاث العلمية فإن أغلبها أكد ان مصطلح 'قبطي' يعني - لغويًا - 'مصري' وأن 'الكتابة القبطية' التي ظهرت منذ ما قبل قدوم المسيحية هي إحدي مراحل 'كتابة' اللغة المصرية القديمة .. ومن أهم البحوث تلك التي ناقشت 'الفن القبطي' كإحدي مراحل الفن المصري القديم، وتأثره بالفنون البطلمية والبيزنطية وأثره في الفنون البيزنطية فيما بعد خاصة في 'فن الأيقونات' الذي يعتبر فنًا مصريًا خالصًا .. سبق به فنانو مصر فناني أوربا ..

هذا بالإضافة إلي المؤثرات المتبادلة بين الفنون الإسلامية والقبطية خاصة في الفنون الشعبية.المؤتمر بشكل عام انجاز علمي وطني جاء في موعده ليعلن ان 'القبطية' هي المصرية .. وان 'الأقباط' هم سكان مصر من المسلمين والمسيحيين وان 'العصر القبطي' ملك للمصريين جميعًا وجزء لا يتجزاء من ميراث مصر الحضاري.تحية لكل من أسهم في انجاز هذا المؤتمر العلمي الوطني.


بقلم أسامة عفيفى
جريدة الاسبوع فى 1 أكتوبر 2010

رؤيا - في الزمزمية سم قاتل!!

ما أن جلست في المقهي، حتي صاح في وجهي: 'أنا أحملك المسئولية كاملة، أنت صاحب قلم ولابد أن تنبه الناس' ابتسمت وقلت بهدوء! ما الجديد؟! قال بحدة: 'ليس جديداً، إنه قديم جديد فكل عام ومع بداية العام الدراسي نصرخ وننبه ولا يستجيب مخلوق، انهم يقتلون أطفالنا عمداً ومع سبق الإصرار والترصد.. باختراع اسمه 'الزمزية' وهي في الأصل 'قنبلة سموم موقوتة' معلقة في أعناق اطفالنا تنقل السم والأمراض إلي جسدهم وهم لا يعلمون. ولأنني أعرف كيف أتعامل مع ثورة صديقي الكميائي النابه.. الذي يعمل في صمت مع كوكبة من العلماء والخبراء في بحوث علمية غاية في الأهمية دون أن يلتفت إليهم أحد..

قلت له: إشرح لي يا صديقي وأنا سأكتب ما تقول.. وانطلق يشرح بحماس للأصدقاء حجم الكارثة.. وبصوته المبحوح قال: 'الأطفال الآن ياسادة لا يذهبون إلي مدارسهم بالحقيبة المدرسية فقط، بل لابد من وجود 'زمزمية' يعلقها الطفل في عنقه ليشرب منها إذا عطش، والزمزية 'الحقيقية' المعتمدة ـ دوليا ـ عبارة عن جسم زجاجي من الداخل محكم الإغلاق مغلق من الخارج باللباد أو الفلين أو البلاستيك فائق الجودة ليحتفظ ببرودة السائل المحفوظ، لكن هذا النوع 'المعتمد' لا يستطيع الحصول عليه كل الناس، لأنه غالي الثمن..

إنه حكر علي أبناء الصفوة فقط، اما باقي البشر من المصريين فيشترون لأولادهم من باعة الأرصفة 'زمزمية أخري' من البلاستيك الخالص اي غير مطابقة للمواصفات، الأخطر هو أن هذه الزمزميات مصنوعة من بقايا نفايات البلاستيك، وبقايا نفايات المستشفيات البلاستيكية، كخراطيم الدم والسرنجات، وخراطيم الأكسوجين، حيث يقوم متعهدو اعدام النفايات بنقلها من المستشفيات الي هذه المصانع لتقوم بتدويرها وتصنع منها شفاطات العصير، والملاعق البلاستيك، وعلب الكشري والفول، وتصنع كميات هائلة من 'الزمزميات الملونة' مع بداية العام الدراسي تباع جهاراً نهاراً علي الأرصفة دون رقيب أو محاسب، رغم ان الجميع يعلم انها تسبب أمراض الكبد الوبائي، والفشل الكلوي والسرطان هذه الأمراض الخطيرة تنتقل الي جسد الأطفال الأبرياء مع كل جرعة ماء يشربونها من هذه الزمزميات وهم سعداء بامتلاك 'زمزمية' شأنهم شأن 'أولاد الناس' وهنا طفرت من عينيه الدموع، وقال لي بصوت متهدج: من فضلك اكتب 'في الزمزمية سم قاتل!!' كررها عدة مرات..

تركت المقهي وصوته المتهدج الحزين يرن في أذني، ويعتصر قلبي عصراً.. ووجدتني أتمتم بيني وبين نفسي: في الزمزمية سم قاتل!! في الزمزمية سم قاتل في الزمزمية


بقلم أسامة عفيفى
جريدة الاسبوع 20-9-2010

من اللغوي الي البصري .... الشهاوي يضع الشطة في علبة السكر بالمعرض العام


وضع القلم جانبا .. و امسك بالفرشاه و راح يلعب .. او يلهو .. او يتامل السطح الابيض محاولا ان يرسم ملامح قصيدة مستحيله ، او مغايرة ؛ قصيدة مرئيه منطلقه و منعتقه من اسر " الدلالات " و " سطوة " المنطقية اللغويه الصارمه .



فمهما حاول الشاعر ان " ينعتق " من اسر " الدلاله " اللغوية ، يظل اسيرا للقالب " الارسطي " لفلسفة اللغة و منطقها " الصوري " ، " الميكانيكي " المتراتب عبر تاريخ اللغة .. فتظل قصيدته ايا كان تمردها او رعونتها محاصرة و مسجونه باسوار الدلالة التاريخية للغه .. فتتضاءل امام القصيدة امكانيات التأويل مهما برع الشاعر و مهما ابتكر ، اما اللوحة فما زالت ابواب تأويلها مفتوحة علي مصاريعها بل و تظل تمارس "غواية " التأويل المنفلت و الارعن بدون حدود ..



ربما كان هذا هو السبب الذي ألجأ الشهاوي لرسم النص الشعري ، و تجسيده بصريا او لكتابه قصيدة بصرية ملونه .. ليستريح و لو قليلا من التأويل " المتربص " !!! او ربما هو نوع من الرغبة في الانعتاق من اسر " الجاذبية اللغوية " التي تقيد رغبته في التحليق ، و تربطه دائما بأرض اللغة المحاطه بمتاريس " التربص " السلطوي و البوليسي و الايديولوجي و الكهنوتي ....



هل هو الرغبة في اللعب ، و اطلاق الطفل الكامن الذي قمعته المكاتب ، و الحريه المدجنه في الصحف ، و منصات المهرجانات الرسمية و تحذيرات الاباء و الامهات من " اللعب في الطين " و ارتداء الوقار المجاني ، و وضع اقنعة الطيبة المؤدبه حسب شروط الطبقة الوسطي ؟!!



اعتقد انها قبل ذلك و بعده ، رغبه دفينه في كسر القوالب و القواعد ، او بتعبير ادق " قلب المنضده " او هو اجابه علي سؤال ارعن .. " لماذا دائما نضع السكر في علبة السكر ، و الشطة في علبة الشطة " ؟!

لماذا لا نضع الشطة في علبة السكر لتلسع لسان من يتذوقعها متوقعا طعما سكريا افتراضيا يتم تذوقه ذهنيا بشكل مسبق ؟! هل هو محاوله لصدم الذهنية المسبقة ؟!



ام هو ذلك كله مجتمع في هذه الخطوه " العشرية " نسبة الي اللوحات العشرة المعروضة في المعرض العام "، هذه الخطوه " الانتحاريه " المفخخة المحاطه بالمخاطر حيث سيري تشكيليون محترفون انهم احق بالمساحة التي احتلتها لوحات الشهاوي ، و يري معارضو المؤسسة الثقافية الرسمية ـ من امثالي ـ انها مجرد مجامله من قومسيير المعرض الذي هو صديق قديم بالاضافة الي كونه " بلديات " الشهاوي . او ربما يصفها اعضاء رابطة كارهي احمد الشهاوي ، علي انها نتيجة لشبكة علاقاته العنكبوتيه .. بعيدا عن التأويلات الخبيثة ما علاقة ذلك كله بوضع الشطة في علبة السكر ؟!



الحقيقة انني لم اجب علي سؤال اهم : هل من حق الشهاوي ان يرسم و يعلن عن نفسه كرسام فجأة و بدون سوابق ،، و تحتل رسوماته جدران المعرض العام ككبار الرساميين ؟!



الحقيقة انه لا توجد " صحيفة سوابق " او " فيش و تشبيه " في الابداع ، فالابداع حق دستوري مكفول لاي مواطن .. بشرط ان يكون " ابداعا " يعي موقعه من تاريخ الابداع الانساني ، و موقعه من قيم المجتمع العليا ثقافيا و روحيا و وطنيا . حتي و ان " خمش " السائد فهو " يخمشه " من موقع الانتماء ، لا من موقع التعالي او الانتماء لاجندات ثقافات اخري ، اما عن مشروعيه ما قام به الشهاوي " ابداعيا " فلقد سبقه كثيرون عبر تاريخ الابداع الانساني و العربي فلقد كان دافنشي مهندسا و مخترعا و شاعرا و رساما و كان ابن سينا خطاطا و طبيبا و شاعرا و فيلسوفا و في العصر الحديث كان بيكاسو شاعرا و مسرحيا فضلا عن كونه فنانا مؤسسا للحداثة .. و لقد علق علي ذلك في مذكراته بقوله : " اعتقد ان انتاجي كاتبا سيوازي في اتساعه و اهميته انتاجي كفنان تشكيلي ..



في الواقع انا اكرس الوقت نفسه تقريبا للكتابه و الفن ، وفي احد الايام و بعد ان اكون قد غادرت هذه الدنيا سيصدر ربما في الموسوعات و القواميس التعريف التالي : بابلو بيكاسو شاعر و كاتب مسرحي اسباني "!!!! كذلك كان نزار قباني يرسم قصائده و اغلفة دواوينه و ايضا مظفر النواب ، و صلاح جاهين و مجدي نجيب فضلا عن تجربة بيكار الشعريه الهامه ، و تجربة احمد مرسي في الشعر و الرسم ، و كذلك تجربة ادوارد الخراط ، هناك شعراء رسامون كثيرون اهمهم جبران خليل جبران ، و يعيش بيننا كثير من الرسامين الشعراء كماجد يوسف ، و سليم بركات ، و عباس بيضون و ادونيس ، و فوزي كريم ، و نزيه ابو عفش ...



حتي وليام بيليك كان شاعرا مهما و يري الكثير من النقاد ان اشعاره اهم من لوحاته و قد يتساءل سائل ، لكن الشهاوي لم يكن معروفا من قبل " كرسام " و انه فجأة ـ و " علي كبر " ـ قفز بلوحاته الي جدران المعرض العام لعرضها و ينافس بها الفناين " الغلابة " في عقر دارهم فهل لعلاقته المتشعبة دور في هذا الاكتشاف المفاجئ ؟!


اعتقد انني اجبت عن هذا السؤال ان لم تخني الذاكرة ، فليس في الابداع " صحيفة سوابق " او " فيش و تشبيه " بشرط واحد ان يكون ابداعا ، اما احتلاله لجدار من جدران المعرض العام ... فأنا اري ان من حق اي شاعر او مسرحي او موسيقي .. و ليس احمد الشهاوي فقط ان يقدم اي معالجه تشكيلية او فنيه غير ابداعه الذي اشتهر به .. و لابد ان تحتفي به و بتجربته المؤسسة الثقافية الرسمية لان في ذلك اثراء للحركة الثقافية و النقدية.. فلسوف تطرح مثل هذه التجارب اسئلة غير تقليدية علي مائدة " النقد الكسول " بعضها سيدور حول تراسل الفنون ،و بعضها عن " مخيلة الشاعر " و " مخيله التشكيلي " و بعضها الثالث حول " علم النفس الابداعي " و الجدل بين عقلية الاديب و عقلية الفنان ، خاصة وان الشاعر هو في الحقيقة " مصور " يغوص في اعماق الكون ليرسم صورة " ذهنية " باللغة و المعروف ان كثيرا من الرسامين حولوا الصور الجمالية في الشعر من " نص لغوي " الي " نص بصري " و العكس بالعكس .



فلقد كتب شعراء كبار عن اعمالا فنية اعادوا انتاج جمالياتها من خلال جماليات اللغة ..



المهم في التجربة هو الي اي حد تبدي اللغوي في البصري ، و الي اي حد خاطب الشاعر بلوحته " عيون المتلقي " بلغة الشكل ، اعتقد ان التجربة مشروعه ، و مهمة لانها تطرح كثيرا من علامات الاستفهام و ستطرح العديد من القضايا الجماليه التي ستنشط البحث النقدي ، بل اري انها تجربة " شجاعة " من الشهاوي نفسه ، و من قومسيير المعرض الذي يعي في اعتقادي اهمية ان يرسم شاعر و يضع تجربته تحت الضوء لتناقشها الحركة الثقافية و النقدية...



هل استطعت ان ارتب المشهد ؟!

و هل تمكنت من الهروب المنظم من الادلاء برأي في تصنيف ما جاء به الشهاوي و تثمينه ... ام انني وضعت شأني شأن الشهاوي ـ الشطة في علبة السكر ؟!!!



الحقيقة انني من الذين يرون ان دور " النقد " ليس تقييم او تقوييم او تثمين الفن او الحكم عليه ، انما اري ان الدور الحقيقي للنقد او الكتابة في و عن الفن هو دور " معرفي ـ تحليلي " فأهم ما ينبغي ان يقوم به الناقد او الكاتب الفني هو وصف و تحليل تجربة المبدع و وضعها في سياقها المعرفي فنيا و مجتمعيا و ثقافيا ، و الوصف لابد ان يتضمن المعرفي ، و التحليل يتطلب قدرة عالية من الكاتب علي تفكيك المشهد البصري او تفكيك " الصورة " الي ابسط وحداتها التكوينية تصميما و لونيا ، و من خلال هذه الوصفية التحليلية سيمتلك المشاهد ابجديات العمل المعرفية ، و يضع يديه علي قوانين و مفاتيح العمل فيتقن اللعبة فيعيد ـ هو الاخر ـ تفكيكه كيفما شاء ليفتح ابواب التذوق التأويلي غير المحدود فتكتمل دائرة الابداع ( المبدع – العمل الفني – المتلقي ) و هذا هو الدور الحقيقي للكتابة عن و حول الابداع بشكل عام .



و الشهاوي في لوحاته العشره يدخل الي عالمه من بوابه " التعبيرية التجريديه " تلك اللمدرسة التي تعطي للون دور البطوله في التعبير بحيث تعبر حركة الفرشاه علي السطح عن قيم تجريدية عليا من خلال " تشكل اللون " تبدو و كأنها تلقائية .. و لابد ان تشعر المتلقي بتلقائيتها البكر و روعونتها غير المحسوبه ، و كأنها نتيجة انكساب لوني علي السطح شكل شكله بتلقائية و عفويه هنا تتدخل " الحرفة " لوضع التكوين في حاله تصميمه تحقق التوازن الجميل ، و لا تفقده بكارة الرعونه التلقائية اي ان اللعبة ليست مجرد " سكب " الالوان علي السطح الابيض فتشكل اللوحة نفسها كما يدعي البعض ، و لكن " اللعبة " تكمن في قدرة الفنان " تصميما " علي اقناعك بذلك . و قدرته علي كبح جماح الانكساب العفوي او حركة الفرشاه الرعناء بطريقة تبدو عفويه و اكثر رعونه فيخرج المنتج الجمالي ذا بناء معماري واضح المعالم روحيا و بصريا ..


و تكتشف انه يمتلك ابجديته الخاصة التي تتطلب تحررا من الافكار المسبقة عن البناء الدرامي الارسطي للوحة .. و تقدم للمشاهد طرقا اخري للتذوق تبتعد به عن " البحث عن المعني " وراء الشكل ، لتفتح له افاق التأويل البصري الذي يحرر الخيال من اسر " القوالب الجاهزه " فيشارك " البصر " و " المخيله " في صنع تأويلات متعددة المستويات كلما نظرنا الي العمل ، ليس فقط باختلاف المشاهدين ، بل باختلاف مرات المشاهدة للمشاهد الواحد .



و لان الشهاوي يمخر في بحار الصوفية و تجلياتها " شعرا و نثرا " فلقد حاول ان يبحر عبر هذه العشريه ـ عبر اللون الاسود بالتحديد و هو لون " ال البيت من احفاد الرسول الكريم " اقول حاول ان يبحر عبر هذه العشرية في عالم " الرؤيا " بصريا و يترجم ما ذاقه و امتلأ به قلبه بصريا ايضا اي عبر ما راه و تذوقه في رحلته الوجدانيه باللون و تحتاج هذه التجربة الي " تأمل صافي " لتكتشف كمتلق رويدا رويدا " رؤياك " انت ... اذا ما جاهدت نفسك ، و خلصتها من قوانين الجاذبية .. فكرا و ذوقا و روحا .


و دليلي علي ذلك هو الرموز الحروفية التي تظهر في قلب التكوين السابح دائما ـ بتلقائيه في " الفراغ الابيض " الذي يشكل في هذه الحالة " العماء " او " اللاوجود " ليركز المشاهد علي " بؤرة الرؤيا " اللونية التي تتشكل من داخلها حروفا و اهله ، و اقمارا و افلاكا و احجبه و تعاويذ سحرية بعضها يظهر واضحا جليا و بعضها يغيب و يتبدد ، و بعضها الثالث يتشكل في حركة دائرية دائبه الحراك الي الاعلي دائما لتربط بين النسبي و المطلق ، بين الواقعي و المتخيل بين السماء و الارض بين المادة و الروح ، بين الظلام و النور ، ذك الظلام الاسود الذي يبدو داكنا لكنه يسطع بنوره من داخله فالظلمه عند الشهاوي تلد نورا و المادي يلد الروحانية و المطلق ينتج النسبي في وحدة ( ديالكتيكية ) واحدة تمثل الوجود المحاط بالنور او المغمور في النور و هذا ـ


في اعتقادي ـ سر الرسم في منتصف الابيض دائما .. ذلك الابيض الازلي الذي يشع نورا و يضع التكوين في قلب " التجلي " التجربة تحتاج الي كثير و الكثير من التأمل ،،،،،،،ن و ما قلته هنا هو تأويل لتأملاتي لاعمال تتعدد تأويلاتها و لست اهدف من هذا التأويل سوي ان اضع " الشطة " في علبة السكر مثلما فعل الشهاوي ، فهل سيعجب الجمهور و النقاد بسكر الشهاوي " المشطشط " ؟

 بقلم اسامه عفيفي

18-9-2010

رؤيا - إعصار زهرة الخشخاش

نعم.. هو إعصار هب، فعصف بالديكور الأنيق البراق وأسقط الأقنعة كلها فظهرت المؤسسة الثقافية الرسمية في خلفية المشهد، بائسة بلا أقنعة، عارية حتي من ورقة التوت.لقد كشفت عملية سرقة 'زهرة الخشخاش' مدي الفساد والركاكة والجهل والضحالة والغيبوبة التي يتسم بها أداء الإدارة الثقافية الرسمية التي أوجعت رءوسنا بانجازاتها غير المسبوقة ومشاريعها العملاقة التي اكتشفنا بعد سرقة اللوحة أنها مجرد مؤسسة كرتونية يسكن خلفها 'الخراب'. وبعيداً عن مباراة 'إبراء الذمة' الدائرة بين أطراف المؤسسة، وبصرف النظر عن أعراض 'المعارضة' التي ظهرت فجأة علي السيد رئيس قطاع الفنون التشكيلية 'فك الله حبسه' الذي كان حتي آخر لحظة من أشد المدافعين عن السيد وزير الثقافة..


بعيداً عن ذلك كله، لا يختلف اثنان علي أن المشهد البائس الذي كشفته سرقة زهرة الخشخاش يصيب أي وطني بالحزن العميق.نعم المشهد 'محزن' بحق، فاللوحة سرقت 'في عز الظهر' من متحف 'قيل لنا' إنه مصمم علي أحدث النظم العالمية، ولنكتشف بعد سرقة اللوحة أنه مجرد 'خرابة'! أي حزن؟! وأي مرارة؟! وأي خدعة تلك التي خدعنا بها؟! ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فلقد كشفت اللجنة التي شكلها السيد الوزير لمراجعة موقف المتاحف أن '8' متاحف أخري 'مفتوحة للزيارة' غير مؤمنة بالمرة!


الأخطر أن جميع الأطراف تعترف بأن كنوز متحف الجزيرة التي تعد أهم بكثير من كنوز متحف محمود خليل مازالت في مخازنها منذ 20 عاما وأن الوزارة والقطاع نجحا - حماهما الله - في تأمين 'المخازن' مؤخراً! ولم يعترف أحد بسرقة '40' لوحة من مقتنيات متحف الفن الحديث كانت معارة لمستشفي العجوزة، وقيدت الجريمة ضد مجهول!كما لم يعترف أحد أن متحف 'مجلس قيادة الثورة' أصبح مجرد أطلال خرسانية لأن وزارة المالية لم توفر الاعتماد اللازم، كما لم يشر أحد إلي أن 'قصر راتب صديق" الذي أهداه للدولة كمتحف تحول إلي مخزن للقطاع، ومازال مصير مقتنياته 'النادرة والثمينة' مجهولاً حتي الآن!


كذلك لم يشر - أحد مجرد إشارة - إلي مصير مئات اللوحات 'المعارة' إلي مؤسسات الدولة منها (150) لوحة لدار الهلال و100 لوحة لأكاديمية الفنون و100 لوحة للمجلس الأعلي للثقافة علي سبيل المثال وليس الحصر، فضلا عن مئات اللوحات المعارة لسفاراتنا في الخارج، وكلها مقتنيات متحف الفن الحديث ولا تعلم وزارة الثقافة عنها شيئاً، من بينها لوحة أحمد صبري 'الراهبة' التي لا يعلم أحد مصيرها، تماما كما لا يعلم أحد شيئا عن مصير لوحة 'السد العالي' لعبدالهادي الجزار.

دائرة الخراب تتسع، ومرارة الخديعة تزداد بالحلق، ويخيم الحزن علي القلب بل يحتل السويداء!! أي خراب هذا الذي كشفه إعصار 'زهرة الخشخاش'!! لله الأمر من قبل ومن بعد.. ولا حول ولا قوة إلا باللة


أسامة عفيفي
جريدة الإسبوع فى 2 سبتمبر 2010

رؤيا - ثقافة التمويل الأجنبي

رفض عمنا يوسف إدريس جائزة مجلة حوار لأنه اكتشف أنها ممولة من مؤسستي فورد فاونديشن وفرانكلين التابعتين للمخابرات الأمريكية، ونشر عمنا غالي شكري تفاصيل علاقة هذه المؤسسات بالمخابرات الأمريكية ودورها في تدجين مثقفي العالم الثالث في كتابه الشهير 'الثقافة في المعركة' كما كتب أحمد عباس صالح دراسة مستفيضة في مجلة الكاتب - آنذاك - شارحاً بالوثائق والأرقام دور فورد فاونديشن المخابراتي في شرق أوربا والوطن العربي، كذلك ترجم صديقنا طلعت الشايب أحد أهم الكتب المعتمدة علي وثائق المخابرات وهو كتاب 'من يدفع للزمار' الذي يؤكد أن هذه المؤسسات التي 'تبدو' ثقافية ما هي إلا مؤسسات 'مخابراتية' تسعي لتحقيق أهداف سياسية في المنطقة.

رغم كل ما كتب مازالت الجماعات والمؤسسات المسرحية والسينمائية والتشكيلية بل والتراثية المسماة بـ'المستقلة' تأخذ حصتها من 'التمويل الأجنبي' جهاراً نهاراً.. غير عابئة بنقد الناقدين تحت دعوي أنها لا تتلقي أي تعليمات من 'الجهات المانحة' وكأن هذه المؤسسات الأجنبية من مبعوثي العناية الإلهية لإنقاذ الثقافة والفنون العربية!!

الأغرب أن المؤسسات المانحة تعلن الأرقام والأهداف والأسماء، فمؤسسة 'أناليند' تعلن أنها تدعم 'ثقافة السلام' بل وتفرض وجود 'نشطاء إسرائيليين' في أي نشاط، وقصة بينالي شباب المتوسط مازالت ماثلة أمامنا، عندما فرضت المؤسسة علي أتيليه الإسكندرية اشتراك فنانين إسرائيليين، ولما رفض الأتيليه عاقبت المثقفين المصريين بنقل البينالي إلي عاصمة أخري، كذلك تعلن فورد فاونديشن تمويلها للبحوث المشتركة 'المعنية بمتغيرات المجتمع المصري كالحجاب والمثليين والمهمشين وأهل النوبة وأهل سيوة بالذات'

كما تمول المؤسسات 'الغامضة' الأهداف كالتاون هاوس وغيره من مؤسسات ما يسمي بالحداثة، ليس في الفنون التشكيلية فقط بل في المسرح والموسيقي، ودعمها لفرق 'الهيب هوب' و'الستاند أب كوميدي' ليس بريئا بل إنه محاولة لأمركة الذائقة الفنية، وقصة تمويلها لفن الطنبورة البورسعيدي معروفة فلقد فضحها فنانو بورسعيد، وكشفوا البرنامج المستهدف تهميش ونزع أغاني المقاومة من تراث السمسمية كذلك دعمها لفرقة مسرحية علي مدي عشر سنوات في مشروع نزع 'العنف' من التراث!! بالإضافة إلي دعمها لمشروع نبذ العنف ضد المرأة والتسامح بين العرب واليهود في مشاريع تراث الأراجوز، هذا كله معروف وتعلنه هذه المؤسسات لأنها تحاسب أمام دافع الضرائب الأمريكي والأوروبي، ورغم ذلك يعلن 'المستقلون' الجدد أنهم لا يخضعون لأي ضغوط!!

الأخطر هو اشتراك المؤسسة الثقافية الرسمية في 'اللعبة' فلقد نظم المجلس الأعلي للثقافة مؤتمرا ناقش حاضر ومستقبل المسرح المستقل بحضور ممثلي الجهات المانحة 'رسمياً' وكأن المؤسسة الثقافية الرسمية تري أن من حق 'الأجانب' تقييم ورسم ملامح حياتنا الثقافية ولا يمكن فهم وجود هؤلاء 'الأجانب' إلا من هذه الزاوية التي أري أنها 'كارثة' تستوجب وقفة جادة من الحركة الثقافية.. فهل نفعل؟! أتمني


بقلم أسامة عفيفي

جريدة الاسبوع 8 أغسطس 2010